في أكتوبر من عام 1943، يُقال إن تجربة غامضة جرت في ميناء فيلادلفيا بالولايات المتحدة، جعلت سفينة حربية تختفي للحظات عن الأنظار. عُرفت تلك الحادثة باسم مشروع فيلادلفيا (Philadelphia Experiment)، وهي واحدة من أكثر القصص التي جمعت بين العلم والأسطورة، بين الفيزياء العسكرية والطاقة الكهرومغناطيسية.
منذ ذلك الحين، لم يتوقف الجدل: هل كانت تجربة حقيقية استخدم فيها الأمريكيون حقولًا مغناطيسية لتخفي السفن عن الرادار؟ أم مجرد أسطورة خيالية ولدت من سوء فهم للتجارب العلمية؟
خلفية زمنية عن مشروع فيلادلفيا
جاءت فكرة المشروع المزعوم في وقت كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها، والولايات المتحدة تسعى لابتكار تقنيات تجعل سفنها الحربية غير مرئية للرادار الألماني. في تلك الفترة، كانت الأبحاث في الكهرومغناطيسية والموجات اللاسلكية تتطور بسرعة، خصوصًا بعد اختراعات نيكولا تيسلا في الموجات عالية التردد، وأبحاث أينشتاين حول النسبية والمجال الموحد.
ويُقال إن الجيش الأمريكي حاول تطبيق بعض أفكار مجال الطاقة الموحّد (Unified Field Theory)، وهو المفهوم الذي حاول أينشتاين من خلاله دمج الجاذبية مع الكهرومغناطيسية في معادلة واحدة.
تلك النظرية، لو ثبتت عمليًا، يمكنها أن تفسّر كيفية “ثني الضوء” حول جسم ما، وبالتالي جعله غير مرئي.
ما الذي حدث في فيلادلفيا؟
القصة تبدأ مع سفينة حربية تدعى USS Eldridge، كانت راسية في ميناء فيلادلفيا. ووفقًا للروايات، تم تثبيت على متنها أجهزة ضخمة لتوليد مجال كهرومغناطيسي قوي جدًا حول الهيكل المعدني للسفينة.
في صباح 28 أكتوبر 1943، شُغّلت الأجهزة. بدأت السفينة تصدر وميضًا أخضر غريبًا، ثم اختفت فجأة عن الأنظار — ليس فقط من الرادار، بل من مرأى العيون أيضًا.
بعض الشهود قالوا إن السفينة شوهدت في نفس اللحظة على بعد مئات الكيلومترات في ميناء نورفولك، قبل أن تعود وتظهر مجددًا في مكانها الأصلي. أما أفراد الطاقم، فقد وُصفوا بأنهم أصيبوا باضطرابات عقلية وجسدية غريبة: بعضهم اختفى، وبعضهم اندمج بجدران السفينة وكأن أجسادهم ذابت في المعدن.
رواية أقرب إلى الخيال، لكنها ما زالت واحدة من أكثر القصص تداولًا في تاريخ الحرب الباردة.
اقرأ ايضا: مقبرة السرابيوم في سقارة: لغز التوابيت العملاقة التي حيّرت العلماء
هل هناك أساس علمي للفكرة؟
رغم أن القصة تبدو سينمائية، فإنها تستند إلى فكرة علمية موجودة بالفعل، وهي التخفي الكهرومغناطيسي (Electromagnetic Cloaking).
هذه الفكرة تعتمد على مبدأ بسيط فيزيائيًا: إذا تمكنت من التحكم في المجال الكهرومغناطيسي حول جسمٍ ما، يمكنك توجيه الموجات الضوئية أو الرادارية بحيث تنحني حوله بدلًا من الاصطدام به. وبهذا، لا تعود العين أو أجهزة الرادار قادرة على رؤيته.
اليوم، هذا ما نسميه بـ المواد الخارقة (Metamaterials)، وهي مواد تُستخدم في الأبحاث الحديثة لصناعة “عباءة الإخفاء” التي يمكنها إخفاء أجسام صغيرة عن الضوء أو الموجات الميكروية.
لكن في عام 1943، لم تكن هذه التقنيات معروفة بعد، ولم يكن لدى البشر أجهزة قادرة على توليد مجالات مغناطيسية بهذا الحجم من الدقة والتحكم.
علاقة نيكولا تيسلا بالمشروع
واحدة من أكثر النظريات انتشارًا تقول إن مشروع فيلادلفيا كان يعتمد على بعض تصاميم نيكولا تيسلا، الذي كان قد توفي قبل التجربة بعام. تيسلا كان يؤمن بإمكانية التحكم في الطاقة الكونية والمجالات المغناطيسية لتغيير خصائص المادة.
ويُشاع أنه قبل وفاته، عرض على الجيش الأمريكي أفكارًا حول حماية السفن من الرادار عبر “تحفيز الحقل الكهرومغناطيسي الأرضي”، لكن مشروعه أُغلق بسبب خطورته المحتملة.
بعض المؤرخين يرون أن ما حدث في فيلادلفيا لم يكن تجربة للاختفاء، بل محاولة فاشلة لتطبيق مبدأ النقل الكهرومغناطيسي للطاقة، مستوحاة من أفكار تيسلا.
التناقضات في القصة
ما يجعل مشروع فيلادلفيا مثيرًا أكثر من كونه مقنعًا هو التناقضات الكثيرة في الروايات.
فلا يوجد أي سجل رسمي في البحرية الأمريكية باسم المشروع أو التجربة، ولا أي وثائق علمية تشير إلى اختفاء السفينة فعلاً.
السفينة USS Eldridge واصلت خدمتها بعد عام 1943، وتم بيعها لاحقًا للبحرية اليونانية عام 1951، حيث ظلت تعمل لعقود دون أي أثر للضرر أو التشوهات الغريبة التي يصفها شهود التجربة.
كما أن الشهود الأساسيين مثل “كارل ألين”، الذي نشر القصة لأول مرة في الخمسينيات، لم يقدموا أي دليل مادي، وغالبًا ما تناقضت أقوالهم. بعضهم وصف التجربة بأنها “نقل آني عبر الزمن”، وآخرون قالوا إنها كانت مجرد تجربة لإخفاء السفن عن الرادار باستخدام مجالات مغناطيسية مضادة.
الفيزياء وراء الفكرة
لتفسير القصة علميًا، يمكننا التفكير في ما قد يحدث لو تم توليد مجال كهرومغناطيسي قوي حول جسم معدني ضخم مثل سفينة.
في الحالة الواقعية، سيؤدي ذلك إلى تأين الهواء المحيط وانبعاث ضوء أخضر أو أزرق (ظاهرة بلازما)، وهو ما قد يفسر ما شاهده بعض العمال في الميناء.
كما يمكن أن يؤدي المجال الشديد إلى تشويش أجهزة الرادار، مما يعطي الانطباع بأن السفينة اختفت إلكترونيًا.
لكن تحويل الضوء نفسه أو المادة إلى طاقة، أو جعلها “غير مرئية بصريًا”، يحتاج إلى مستوى من التحكم في الحقول لا يمكن تحقيقه إلا في المختبرات الحديثة. أي أن الفكرة ممكنة من حيث المبدأ، لكنها مستحيلة عمليًا بتقنيات الأربعينيات.
التجارب المشابهة في العصر الحديث
من المثير أن بعض التقنيات الحديثة أعادت إلى الأذهان ما كان يحلم به مشروع فيلادلفيا. ففي عام 2006، أعلن علماء من جامعة ديوك الأمريكية عن أول تجربة ناجحة لـ “عباءة إخفاء” باستخدام المواد الخارقة التي تحني الموجات حول الأجسام الصغيرة.
وفي عام 2015، طوّرت وكالة DARPA الأمريكية مادة جديدة يمكنها امتصاص الموجات الكهرومغناطيسية بنسبة تقارب 99%.
هذه التجارب تُظهر أن “الاختفاء الكهرومغناطيسي” لم يعد مجرد خيال، بل أصبح مجال بحث حقيقي. لكن ما زال بعيدًا جدًا عن جعل سفينة كاملة تختفي كما تقول الأسطورة.

الجانب النفسي والرمزي في القصة
قد لا تكون قصة مشروع فيلادلفيا عن السفن والمغناطيس فحسب، بل عن الخوف البشري من المجهول العلمي.
ففي منتصف القرن العشرين، كان الناس يسمعون للمرة الأولى عن الذرة، والأشعة، والحقول الكهرومغناطيسية — مفاهيم غريبة بدت وكأنها سحر جديد. لذلك، أي تجربة علمية غامضة كانت تتحول بسرعة إلى قصة أسطورية.
حتى اليوم، تبقى فكرة “الاختفاء” واحدة من أقوى الرموز في الخيال العلمي، لأنها تمسّ رغبة الإنسان في تجاوز قوانين الطبيعة.
أينشتاين والمجال الموحد
البعض يربط بين مشروع فيلادلفيا وأفكار أينشتاين عن المجال الموحد. في الحقيقة، أينشتاين كان يعمل بالفعل على معادلات تحاول دمج الجاذبية والكهرومغناطيسية في نظام واحد، لكنه لم ينشر أي تطبيق عملي لذلك.
الاحتمال العلمي بأن التجربة استندت إلى معادلاته ضعيف جدًا، لأن المجال الموحد لا يفسر “الاختفاء”، بل يسعى إلى توحيد القوى الأساسية في الطبيعة.
ومع ذلك، يبقى من المدهش أن تتقاطع قصة أسطورية مثل هذه مع مفاهيم فيزيائية حقيقية كانت تُناقش في نفس العصر.
هل يمكن أن تكون القصة تخفي شيئًا آخر؟
هناك احتمال آخر طرحه بعض المؤرخين، وهو أن “مشروع فيلادلفيا” ربما كان غطاء لتجربة عسكرية حقيقية تتعلق بتقنيات التمويه الراداري أو الموجات المغناطيسية الدفاعية.
في زمن الحرب، كانت السرية مطلقة، وأي تجربة فاشلة أو غير مفهومة كان يتم التعتيم عليها فورًا. ربما تم تضخيم الحكاية لاحقًا حتى تحوّلت إلى أسطورة كاملة عن الاختفاء والزمن والطاقة الغامضة.
ما بين العلم والخيال
علميًا، لم تثبت أي تجربة بشرية قدرتها على جعل الأجسام تختفي كليًا. لكن في الوقت ذاته، لا يمكن إنكار أن التطور التكنولوجي يقترب تدريجيًا من المفاهيم التي كانت تُعد خيالًا.
فمنذ أن حوّل أينشتاين المادة إلى طاقة في معادلة E=mc²، لم تعد الحدود بين الواقع والاحتمال واضحة كما كانت.
ربما لم تختفِ السفينة فعلاً، لكن قصة مشروع فيلادلفيا تُذكّرنا بقدرة الإنسان على الحلم بما يتجاوز حدود العلم نفسه.
الخلاصة
- مشروع فيلادلفيا قصة تجمع بين الفيزياء والخيال، بين الحرب والعلم.
- من المحتمل أنه كان مجرد تجربة مغناطيسية دفاعية أسيء فهمها أو تضخيمها.
- الفكرة العلمية للاختفاء الكهرومغناطيسي ممكنة نظريًا، لكنها تحتاج إلى تكنولوجيا لم تكن متوفرة في الأربعينيات.
- القصة تبقى رمزًا لفضول الإنسان ورغبته الدائمة في كسر حدود الواقع.
هل كان المقال مفيدًا؟
رائع!
هل لديك مقترحات لتحسين تجربتك أكثر؟
آسفين لذلك!
لماذا كان المقال غير مفيد؟ *



